بنظر كلّ شخص معنيّ بشؤون الشرق الأوسط، يعدّ قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، شخصيّة ملفتة إلى حدّ كبير. وقد تناولته النقاشات والأحاديث على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب ما يملكه من حضور لا يمكن إنكاره في المنطقة.
ولا شكّ في أنّ الجنرال قاسم سليماني، المعروف جيّداً من السياسيين ووسائل الإعلام في المنطقة، بات أشهر من نار على علم. وهو الرجل الأقوى والأكثر جدارة بالثقة بنظر المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي. وقد شكّل محور اهتمام كبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً، سمح لوسائل الإعلام بالتقاط صورة له في العراق خلال استيلاء تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) على بلدة آمرلي. وفجأة، ومنذ شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، عجّت وسائل الإعلام بصوره، وأخباره، إلى جانب توقّعات في شأن مسيرته المستقبلية، وشاعت التساؤلات حول سبب الاهتمام الذي أولي له عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ولوهلة شعرنا، بالنظر إلى صوره في أنحاء العراق كافّة، وإلى المقالات الطويلة التي كُتبت عنه في أنحاء العالم، ومقالة الغلاف التي صدرت عنه في أحدث عدد من مجلة «نيوزويك»، وكأنّ أغراضه، وقمصانه وعصبة رأسه ستُطرح للبيع في السوق قريباً.
ولم يكن هذا الرجل، الذي يعدّ المناضل الأقوى والأكثر نفوذاً في المنطقة، ليظهر في وسائل الإعلام. وما كان اسمه ليُطرح للتداول لو لم يكن النظام الإيراني يرغب في ذلك.
اليوم، أصبح اسم هذا الرجل متداولاً في المنازل وفي السهرات، وبات البعض يتحدّثون عنه بإعجاب، والبعض الآخر بخوف وحذر، بعد أن كانت القلوب ترتجف خيفةً لمجرد ذكر اسمه منذ وقت ليس بالبعيد.
وفي الآونة الأخيرة، نقلت وسائل الإعلام الإيرانية الحكوميّة كلاماً عن ضابط كبير في حرس الثورة الإسلاميّة يفيد بأنّ التركيز على الجنرال سليماني هو «حملة إعلامية عدائية».
ويوم الجمعة في 5 كانون الثاني (ديسمبر) الماضي، أعلن ضابط كبير في حرس الثورة الإسلاميّة أنّ الأعداء شنّوا حرباً نفسية ضد إيران، من خلال تسليطهم الضوء على قائد فيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، من أجل التقليل من شأن هذه الشخصية الأسطورية. وبالتالي، هل كان هذا الظهور في وسائل الإعلام مبالغاً فيه أم أنه مقصود ومخطط له؟
لم يقرّر السيد سليماني شخصياً السماح للإعلام بتصويره وبنشر صوره على نطاق واسع في أنحاء العالم، وقد يكون هذا القرار وليد أهداف واستراتيجيّة أعمق. وقد أشار ضابط كبير في حرس الثورة الإسلاميّة إلى وجود قرار بعدم «كسر هذه الأسطورة»، ما يغيّر بالتالي مقام الجنرال، ليتناسب مع الظروف الإقليمية الحالية.
طرأت تغييرات على الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد 36 سنة على اندلاع الثورة فيها، بحيث يتبّع جيل جديد من السياسيين مقاربات مختلفة تجاه العالم، ولا سيما تجاه الولايات المتحدّة. وبعد أن كان الجنرال سليماني من أهمّ الرجال المطلوبين بنظر الأميركيين، بات تقبّل محاربة إيران لتنظيم «داعش» في العراق تقبّلاً للجنرال سليماني، وإن لم يكن هذا التقبّل بمثابة شكر مباشر لإدارة روحاني.
وفي هذه الحقبة الجديدة التي قد تشهد نهاية للملفات النووية الإيرانية، يجب أن تتجاهل الولايات المتحدة وإيران بعض المسائل المهمّة، وأن تفتحا أبواب التعاون بينهما وأن تبذلا جهداً لتقبّل بعضهما بعضاً.
وفي هذه المرحلة الانتقالية بالنسبة إلى إيران، تعدّ المسألة النووية المشكلة الأساسية التي يجب التركيز عليها أولاً، قبل الانتقال إلى معالجة المسائل الأخرى مثل الوجود العسكري الإيراني في المنطقة. وكان الجنرال سليماني يمثّل صورة عن تدخّل إيران في المنطقة. وفي حال كان ممكناً تغيير هذه الصورة ليكون هذا الوجود «إيجابياً ومبرّراً»، سيكون التغيير الذي يطرأ على الجمهورية الإسلامية قد اكتمل. وتقضي الخطوة التالية بمعاودة تعريف الجهات المقاتلة إقليمياً، على غرار حزب الله في لبنان، الذي لطالما اعتُبر جيشاً من صنع إيران يتعاون مع هذه الدولة.
قد يكون تفكيك حزب الله أو فيلق القدس (وحدة القوات الخاصة في حرس الثورة الإسلاميّة المولج إجراء العمليات الخارجية)، صعباً، أو حتّى مستحيلاً، بيد أنّ ما يمكن فعله هو جعل كلّ منهما تابعاً لجيش بلادهما.
قد تكون هذه الاستراتيجية طويلة المدى، ولكن في حال تطبيقها، ستسمح بمعاودة تحديد غاية تواجد مجموعات مقاتلة من هذا القبيل، فلا تعود مهابةً إلى هذا الحد، وتصبح مقبولة من العموم ومن المجتمع الدولي.
إن كانت إحدى الجهات تتمتع بالنفوذ والقوة لا يعني ذلك أنّه يجب أن تشكّل مصدراً للخوف. وفي نقيض ذلك، قد يسمح هذا التعريف الجديد بتبرير وجودها، فتحظى بنوع من إعجاب لدى الرأي العام. وخلال الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الدفاع اللبناني إلى طهران، تعهد رئيس جهاز الأمن القومي في إيران بإمداد الجيش اللبناني بالمعدات العسكرية والمساعدات الضرورية. وفي المستقبل القريب، قد ينخرط «حزب الله» مع الجيش اللبناني من دون أن يتمّ تفكيكه، فيحظى بالشرعية اللازمة ليدير عمليّاته تحت غطاء الجيش الوطني.
ليس هذا التغيير، أو الانخراط في صفوف الجيش، من النوع الذي قد يحصل بين ليلة وضحاها. هذه عمليّة في طور الحصول، والدليل على ذلك هو ملاحظة وزير الخارجية الأميركية جون كيري، حين سئل عن الضربات الجوية التي تنفذّها إيران ضد «داعش» في العراق، قائلاً، «من الواضح برأيي أنه في حال كانت إيران تقاتل التنظيم في مكان معيّن فستُحدث وقعاً... ويكون تأثيرها إيجابياً».
وسئل وزير الخارجية جون كيري إن كان يعرف ما إذا كانت إيران قد شنّت ضربات جوية في العراق، وإن كان يعتقد بأنّ تدخلها سيكون مفيداً في القتال ضد مقاتلي التنظيم. فذهب كيري إلى أبعد من ذلك وقال إن الضربات الجوية الإيرانية لن تكون سيئة بالضرورة.
لا شك في أنّنا أمام ظاهرة جديدة في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة منذ الثورة، بفضل القرار الأميركي بعقد تسوية مع طهران، ولكن أيضاً بفضل جيل جديد من الديبلوماسيين الإيرانيين، الذين يملكون مهارات ويحظون بثقة المرشد الأعلى، لتحسين صورة إيران.
ليست إيران عضواً في التحالف الذي يقاتل تنظيم «داعش». ولكن بنظر الولايات المتحدّة، وإن لم يعترض العراق على هذا النوع من الحضور العسكري والعمليّات من الجانب الإيراني، فلن ترى الولايات المتحدة مشكلة في ذلك، بل أنّها سترى في الأمر فائدةً... ويعدّ قبول الولايات المتحدّة بالدور الذي ستؤديه إيران في العراق بمثابة قبول بالتغييرات الحاصلة، وإقرار بمكانة سليماني المتواجد في أرض المعركة في العراق، والذي «يساعد القوات العراقية والكردية» التي تقاتل تنظيم «داعش» أو تدير العمليات على حدّ قول مسؤولين إيرانيين.
وما إن تعقد إيران اتفاقاً نووياً شاملاً مع الولايات المتحدّة، سيتمّ الإفصاح عن جميع هذه التغييرات المهمّة، على رغم صغر حجمها، ويُعلَن عنها إلى الملأ.
إرسال تعليق